الـيرموك.. نكبة الذاكرة

الـيرموك.. نكبة الذاكرة

09 ابريل 2015
+ الخط -

كثيراً ما حدثتني جدتي عن نكبة 1948 وقصة لجوئهم إلى دمشق في جامع في حي الميدان، ومن ثم انتقالهم إلى مخيم اليرموك الذي كان آنذاك عبارة عن بساتين في منطقة موحشة وخالية، قُرّر تجميع الفلسطينيين اللاجئين فيها.

لم يكن يدخل إلى هذه الرقعة الجغرافية سوى معونات الأونروا وكرت الإعاشة الأبيض المعروف إلى هذا اليوم.. لا ليس إلى هذا اليوم. ربما إلى سنة 2012 قبل نزوح معظم الأهالي من اليرموك.

في 2012 اكتشفت أنني لم أنزح بذاكرتي بل بذاكرة جدتي: ذاكرة النكبة التي لم أعشها. لم أستطع أن أعيش الواقع السوري المشرّد والمهجّر إلا بذاكرة 1948. وقتها شعرت بانتمائي إلى اليرموك أولاً، إلى الثورة السورية في اليرموك ثانياً، أي إلى آخر ما تبقى من فلسطين كفكرة.

اليرموك محاصر منذ عامين من قبل قوات النظام الأسدي، واليوم بات بين فكي الاستبداد الديني والسياسي معاً، وبات بؤرة لصراع ديني إسلامي لا أعرف متى ينتهي.

أشعر اليوم بأن ذاكرتي مثقوبة ومنكوبة. لا أستطيع لملمة جميع صور هذه الرقعة الجغرافية التي كنت فيها طيلة 22 عاماً. كثيراً ما أذكر مدرستي الابتدائية التابعة للأنروا، ولكن بالمقابل تستحضرني صورة جامع عبد القادر الحسيني الذي كان مقابل المدرسة، الغريب أنه لا يحضر إلا في يوم 16 ديسمبر/تشرين الثاني 2012 عندما قُصف بالميغ، رغم أني كنت أراه يومياً! هل الذاكرة لا تحفظ إلا الأشياء في لحظة فقدانها؟

حقاً أعيش رعب أسميته "نكبة الذاكرة" وأخاف مطاردته طيلة حياتي، أنا من ولد في مخيم في دمشق، وكنت مدركة دوما أن المخيم فكرة مؤقتة، وطن مؤقت مهما طالت إقامتنا فيه، لأنه ارتبط بـ"حق العودة".

في طفولتي كنت أقول "بدي ضل باليرموك. اتعوّدت عليه. لما يصير حق العودة واقع بزور فلسطين وقريتي بس برجع لليرموك" سذاجة هذه الجملة مماثلة تماما لمفهوم حق العودة الذي صرخنا لأجله دوماً.

اليوم بالنسبة لي، مخيم اليرموك فكرة مؤقتة زائلة حتماً، سنخسر هذا المكان. الاستبداد سينتهي يوماً ما مهما طال، وسيعاد بناء المدن المدمرة وبناء سورية كما حلمنا ولو بعد خمسين عاماً، لكن ثمة مخيم لن يكون هناك..

كلنا موجودون مؤقتاً، فكرتنا مؤقتة، ووثيقة سفرنا مؤقتة، تنتهي صلاحيتها سريعاً، بسرعة طريقك من الشام إلى بيروت مثلاً. وجود فلسطينيي الشتات مؤقت دوماً ويتلاشى بطريقة ما، سيتلاشى الفلسطينيون ويتلاشى المكان ويتلاشى المخيم وتتلاشى الذاكرة بعدما تعيش نكبتها!

في هذا الوقت السيئ من تاريخ المخيم، ومن تاريخ سورية، تتسابق إلى مخيلتي صور ستأخذ شكل المخيم لاحقاً، آنذاك لن يبقى اسمه مخيم، لن أستطيع تخيّله بمبانٍ عالية. ما معنى هذه الرقعة الجغرافية دون العشوائيات والحارات الضيقة؟ ربما سيعود بساتين ومنطقة مهجورة كما عاشت فيه جدتي للمرة الأولى.. أفضل!

أقفز في الذاكرة إلى المستقبل، علي أعرف وجوه من سيقطن هذه البقعة الجغرافية في سورية الحرة. حينها سيقول السوريون لأبنائهم أنهم تظاهروا هنا وصرخوا للحرية في هذا الحي أو ذاك، ولكن لن يقول أحد عنا شيئاً لأن الجغرافية اليرموكية لن تعود.

أين سيذهبون بكتبنا؟ مظاهراتنا؟ مسيراتنا التضامنية؟ شهدائنا؟ وشبابنا؟

"هم" لن يعرفوا ما معنى هذه الأرض: أرض كان لونها من ألوان كوفية تجذرت بدمائنا وعَرقنا وحلمنا وأرضنا.

أين سيذهبون برائحتنا؟!

صورنا المنسية في المخيم، إن تذكرها أو اعترف بها أحد، ستكون صور الفلسطيني الذي كان لاجئا هنا: الفلسطيني الناجي من المجزرة اللاناجي من الذاكرة..

بعد اليوم معالم وجوهنا ستكون مشابهة لوجوه أهالي صبرا وشاتيلا الذين رأيتهم في بيروت. عناء واحد ومصير واحد. لم نفرق عنهم سوى في لون كرت الأونروا الذي بقي مع تلك الصور.

الآن إلى أين؟ إلى أين ونحن نعيش طقوس مأساتنا وحزننا وأزمتنا الوجودية اللامتناهية؟ أيُّ مكان سيلّمنا ويداوي هذا الجرح ويداوي الذاكرة؟ لا يقين في شيء قادم. اليقين الوحيد أن السوريين سيعودون إلى وطنهم ومكانهم ونحن فقدنا حتى "يرموكنا": الوطن المؤقت.

أخاف الذاكرة، أعيش نكبة الذاكرة..

(فلسطين)

المساهمون